فصل: التَّنْبِيهُ الثاني: في إنكار أبي حيان للقاعدة السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.تنبيهان:

.التنبيه الأول: متى يذكر مفعول المشيئة والإرادة؟

يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: مَا إِذَا كَانَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ عَظِيمًا أَوْ غَرِيبًا فَإِنَّهُ لَا يُحْذَفُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ} الْآيَةَ. أَرَادَ رَدَّ قَوْلِ الْكُفَّارِ: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) بِمَا يُطَابِقُهُ فِي اللَّفْظِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الرَّدِّ لِأَنَّهُ لَوْ حَذَفَهُ فَقَالَ: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَاصْطَفَى) لَمْ يَظْهَرِ الْمَعْنَى الْمُرَادُ لَأَنَّ الِاصْطِفَاءَ قَدْ لَا يَكُونُ بِمَعْنَى التَّبَنِّي وَلَوْ قَالَ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَاتَّخَذَ وَلَدًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ. مَا فِي إِظْهَارِهِ مِنْ تَعْظِيمِ جُرْمِ قَائِلِهِ.
ومثله صَاحِبُ كِتَابِ (الْقَوْلِ الْوَجِيزِ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلْمِ الْبَيَانِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا}. وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}. وَ: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يجعله على صراط مستقيم} وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ.
قُلْتُ: يَجِيءُ الذِّكْرُ فِي مفعول الإرادة أيضا إذ كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لهوا}.
الثَّانِي: إِذَا احْتِيجَ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُذْكَرُ كَقَوْلِهِ: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ} فَإِنَّهُ لَوْ حُذِفَ لَمْ يَبْقَ لِلضَّمِيرِ مَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ يُقَالُ: الضَّمِيرُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا عَادَ عَلَى مَعْمُولِ مَعْمُولِهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُنْكِرًا لِذَلِكَ أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَيَقْصِدُ إِلَى إِثْبَاتِهِ عِنْدَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا فَالْحَذْفُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَذْفَ مَفْعُولِ (أراد) و: (شاء) لَا يُذْكَرُ إِلَّا لِأَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.

.التَّنْبِيهُ الثاني: في إنكار أبي حيان للقاعدة السابقة:

أَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانِ فِي بَابِ عَوَامِلِ الْجَزْمِ مِنْ شَرْحِ التَّسْهِيلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَقَالَ غَلِطَ الْبَيَانِيُّونَ فِي دَعْوَاهُمْ لُزُومَ حَذْفِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ إِلَّا فِيمَا إِذَا كَانَ مُسْتَغْرَبًا وَفِي القرآن: {لمن شاء منكم أن يستقيم} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْمَفْعُولَ هَاهُنَا عَظِيمٌ فَلِهَذَا صُرِّحَ بِهِ فَلَا غَلَطَ.
عَلَى الْقَوْمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أراد الله بهذا مثلا} فَإِذَا جَعَلْتَ (مَاذَا) بِمَعْنَى (الَّذِي) فَمَفْعُولُ (أَرَادَ) مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ وَإِنْ جَعَلْتَ (ذَا) وَحْدَهُ بِمَعْنَى (الَّذِي) فَيَكُونُ مَفْعُولُ (أَرَادَ) مَحْذُوفًا وَهُوَ ضَمِيرُ (ذَا) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مَثَلًا) مَفْعُولَ (أَرَادَ) لِأَنَّهُ أَحَدُ مَعْمُولَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَالٌ.

.فَصْلٌ:

وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِ أَشْيَاءَ غَيْرُ مَا سَبَقَ مِنْهَا الصَّبْرُ، نَحْوَ: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تصبروا} {اصبروا وصابروا}.
وَقَدْ يُذْكَرُ نَحْوَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يدعون ربهم} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: قَوْلُهُمْ: صَبَرَ عَنْ كَذَا مَحْذُوفٌ مِنْهُ الْمَفْعُولُ وَهُوَ النَّفْسُ.
وَمِنْهَا: مَفْعُولُ (رَأَى) كَقَوْلِهِ: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الغيب فهو يرى}.
قَالَ الْفَارِسِيُّ: الْوَجْهُ أَنَّ يَرَى هُنَا لِلتَّعْدِيَةِ لِمَفْعُولَيْنِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْغَائِبِ لَا تَكُونُ إِلَّا علما والمعنى عيه قوله: {عالم الغيب} وَذِكْرُهُ الْعِلْمَ، قَالَ: وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهُوَ يَرَى الْغَائِبَ حَاضِرًا أَوْ حُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تزعمون}، أَيْ تَزْعُمُونَهُمْ إِيَّاهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: هُوَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ لِدَلِيلٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى دَالٌّ عَلَى الْمَفْعُولَيْنِ أَيْ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ وَيَعْتَقِدُهُ حَقًّا وَصَوَابًا وَلَا فَائِدَةَ فِي الْآيَةِ مَعَ الِاقْتِصَارِ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَعَدَلَ عَنِ الصَّوَابِ.
وَمِنْهَا: وَعَدَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا كَأَعْطَيْتُ قَالَ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ}، فَـ: (جَانِبَ) مَفْعُولٌ ثَانٍ وَلَا يَكُونُ ظَرْفًا لِاخْتِصَاصِهِ وَالتَّقْدِيرُ: وَاعَدْنَاكُمْ إِتْيَانَهُ أَوْ مُكْثًا فِيهِ.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مغفرة}.
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} فَإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثاني: وأنها لَكُمْ بَدَلٌ مِنْهُ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ ثَبَاتَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ مِلْكَهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستخلفنهم في الأرض}، فلم يعد الفعل فيها إلا إلى واحد {وليستخلفنهم} تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ وَمُبَيِّنٌ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَبْيِينٌ لِلْوَصِيَّةِ لَا مَفْعُولٌ ثَانٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} {إن الله وعدكم وعد الحق} فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ انْتِصَابَ الْوَعْدِ بِالْمَصْدَرِ وَبِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى تَسْمِيَةِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَعْدًا.
وَأَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فَمِمَّا تَعَدَّى فِيهِ (وَعَدَ).
إِلَى اثْنَيْنِ لِأَنَّ (الْأَرْبَعِينَ) لَوْ كَانَ ظَرْفًا لَكَانَ الْوَعْدُ فِي جَمِيعِهِ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَعْدُودٌ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الْمَظْرُوفِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ وَلَيْسَ الْوَعْدُ وَاقِعًا فِي الْأَرْبَعِينَ بَلْ وَلَا فِي بَعْضِهَا.
ثُمَّ قَدَّرَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ مَحْذُوفًا مُضَافًا إِلَى (الْأَرْبَعِينَ) وَجَعَلُوهُ الْمَفْعُولَ الثَّانِي فَقَالُوا التَّقْدِيرُ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى انقضاء اربعين أَوْ تَمَامَ أَرْبَعِينَ ثُمَّ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ عُدُولِهِمْ عَنْ كَوْنِ (أَرْبَعِينَ) هُوَ نَفْسُ الْمَفْعُولِ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمَحْذُوفِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ نَفْسُ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا تُوعَدُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَلَى تَعْلِيقِ الْوَعْدِ بابتدائها وتمامها ليترتب على الِانْتِهَاءِ شَيْءٌ.
قُلْتُ: وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَيْسَ أَرْبَعِينَ ظَرْفًا إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى وَعَدَهُ فِي أَرْبَعِينَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْوَعْدُ فِي كُلٍّ مِنْ أَجْزَائِهِ وَلَا فِي بَعْضِهِ.
وَمِنْهَا: اتَّخَذَ تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ أَوْ لِاثْنَيْنِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لدنا}. {واتخذوا من دونه آلهة}. {أم اتخذ مما يخلق بنات}. {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا}. ومن الثاني: {اتخذوا أيمانهم جنة}. {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}. {فاتخذتموهم سخريا} وَالثَّانِي مِنَ الْمَفْعُولَيْنِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العجل من بعده} وقوله: {باتخاذكم العجل} {اتخذوه وكانوا ظالمين} {إن الذين اتخذوا العجل}، فَالتَّقْدِيرُ: فِي هَذَا كُلِّهِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا فَحُذِفَ المفعول الثاني.
والدليل على ذلك أنه لوكان عَلَى ظَاهِرِهِ لَكَانَ مَنْ صَاغَ عِجْلًا أَوْ نَحْوَهُ أَوْ عَمَلَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَعْمَالِ اسْتَحَقَّ الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ ربهم}.
وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ أُولَئِكَ عَبَدُوهُ فَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا فِي الْمُتَعَدِّي لِوَاحِدٍ أَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَعَبَدُوهُ وَلِهَذَا جَوَّزَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ اتَّخَذَ فِيهَا مُتَعَدِّيَةً إِلَى وَاحِدٍ قَالَ وَيَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى وَتَقْدِيرُهُ: (وَعَبَدْتُمُوهُ إِلَهًا) وَرَجَّحَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لِاثْنَيْنِ لَصَرَّحَ بِالثَّانِي وَلَوْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ.
الضَّرْبُ الثَّانِي:
أَلَّا يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَقْصُودًا أَصْلًا وَيُنَزَّلُ الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي مَنْزِلَةَ الْقَاصِرِ وَذَلِكَ عِنْدَ إِرَادَةِ وُقُوعِ نَفْسِ الْفِعْلِ فَقَطْ وَجَعْلُ الْمَحْذُوفِ نَسْيًا مَنْسِيًّا كَمَا يُنْسَى الْفَاعِلُ عِنْدَ بناء لفعل فَلَا يُذْكَرُ الْمَفْعُولُ وَلَا يُقَدَّرُ غَيْرَ أَنَّهُ لَازِمُ الثُّبُوتِ عَقْلًا لِمَوْضُوعِ كُلِّ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُدْرَى تَعْيِينُهُ.
وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ لَازِمٌ مِنْ مَوْضُوعِ الْكَلَامِ مُقَدَّرًا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لم تفعلوا ولن تفعلوا}.
وقوله: {كلوا واشربوا} لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْأَكْلَ مِنْ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ وُقُوعَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ.
وَقَوْلِهِ: {هَلْ يَسْتَوِي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وَيُسَمَّى الْمَفْعُولُ حِينَئِذٍ مَمَاتًا.
وَلَمَّا كَانَ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ هَذَا مِنَ الْمَحْذُوفِ فَإِنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِنْ تَبِعْنَاهُمْ فِي الْعِبَارَةِ نَحْوَ فُلَانٌ يُعْطِي قَاصِدًا أَنَّهُ يَفْعَلُ الْإِعْطَاءَ وَتُوجَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ إِيهَامًا لِلْمُبَالَغَةِ بِخِلَافِ مَا يُقْصَدُ فِيهِ تَعْمِيمُ الْفِعْلِ نَحْوَ هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ فَإِنَّهُ أَعَمُّ تَنَاوُلًا مِنْ قَوْلِكَ يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَيَمْنَعُهُ وَالْغَالِبُ أَنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يبصرون}، وَالْآخَرُ فِي الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لقوم يعقلون}.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُحْيِي ويميت} وقوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أمة من الناس} إِلَخْ الْآيَةَ حُذِفَ مِنْهَا الْمَفْعُولُ خَمْسَ مَرَّاتٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَهُوَ قَوْلُهُ (يَسْقُونَ) وَقَوْلُهُ (تذودان) وقوله: {لا نسقي حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ} مَوَاشِيَهُمْ (فَسَقَى لَهُمَا) غَنَمَهُمَا وقوله: {لنخرجنك يا شعيب} قِيلَ: لَوْ ذُكِرَ الْمَفْعُولُ فِيهَا نَقَصَ الْمَعْنَى والمراد أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَأَنَّ إِلَهَهُمْ لَيْسَ لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَدَ قَوْمًا يُعَانُونَ السَّقْيَ وَامْرَأَتَيْنِ تُعَانِيَانِ الذَّوْدَ وَأَخْبَرَتَاهُ أَنَّا لَا نَسْتَطِيعُ السَّقْيَ فَوَجَدَا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمَا السَّقْيَ وَوَجَدَ مِنْ أَبِيهِمَا مُكَافَأَةً عَلَى السَّقْيِ وَهَذَا مِمَّا حُذِفَ لِظُهُورِ الْمُرَادِ وَأَنَّ الْقَصْدَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنَ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ سَقْيٌ وَمِنَ الْمَرْأَتَيْنِ ذَوْدٌ وَأَنَّهُمَا قَالَتَا لَا يَكُونُ مِنَّا سَقْيٌ حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ وَأَنَّ مُوسَى سَقَى بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا أَنَّ الْمَسْقِيَّ غَنَمٌ أَوْ إِبِلٌ أَوْ غَيْرُهُ فَخَارِجٌ عَنِ الْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: يَذُودَانِ غَنَمَهُمَا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْكَارُ لَمْ يَتَوَجَّهْ مِنْ موسى عَلَى الذَّوْدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ذَوْدٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ ذَوْدُ غَنَمٍ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَوْدُ إِبِلٍ لَمْ يُنْكِرْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا جَعَلْنَا هَذَا مِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي مُوَافَقَةً لِلزَّمَخْشَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ تُرِكَ الْمَفْعُولُ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الفعل لا المفعول ألا ترى أنه إنمارحمهما لِأَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى الذِّيَادِ وَهُمْ عَلَى السَّقْيِ ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيم إِبِلٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمَا: {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرعاء} الْمَقْصُودُ مِنْهُ السَّقْيُ لَا الْمَسْقِيُّ.
وَجَعَلَهُ السَّكَّاكِيُّ مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، أَعْنِي مِمَّا حُذِفَ فِيهِ لِلِاخْتِصَارِ مَعَ الْإِرَادَةِ وَالْأَقْرَبُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَرَجَّحَ الجزري قَوْلَ السَّكَّاكِيِّ أَنَّهُ لِلِاخْتِصَارِ فَإِنَّ الْغَنَمَ لَيْسَتْ سَاقِطَةً عَنِ الِاعْتِبَارِ بِالْأَصَالَةِ فَإِنَّ فِيهَا ضَعْفًا عَنِ الْمُزَاحَمَةِ وَالْمَرْأَتَانِ فِيهِمَا ضَعْفٌ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ضَعْفِ الْمَسْقِيِّ ضَعْفُ السَّاقِي كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِلرَّحْمَةِ وَالْإِعَانَةِ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى}.
وقوله: {وأنه هو أغنى وأقنى}.
وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وأحيا}.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين} لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الزَّوْجَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَخْلُقُ كُلَّ ذَكَرٍ وَكُلَّ أُنْثَى وَكَانَ ذِكْرُهُ هُنَا أَبْلَغَ لِيَدُلَّ عَلَى عُمُومِ ثُبُوتِ الْخَلْقِ لَهُ بِالتَّصْرِيحِ.
وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْلِحْ لِي في ذريتي} لِوُجُودِ الْعِوَضِ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ لَفْظًا أَوْ هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي ذُرِّيَّتِي وَمَعْنَى الدُّعَاءِ بِهِ قَصْرُ الْإِصْلَاحِ لَهُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ إِشْعَارًا بِعِنَايَتِهِ بِهِمْ.
وَقَوْلِهِ: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أَيْ عَاقِبَةُ أَمْرِكُمْ لِأَنَّ سِيَاقَ الْقَوْلِ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ حِينَئِذٍ بِالْحَذْفِ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشْيَاءُ:
مِنْهَا: الْبَيَانُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ كَمَا فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ عَلَى مَا سَبَقَ، نَحْوَ: أَمَرْتُهُ فَقَامَ أَيْ بِالْقِيَامِ وَعَلَيْهِ قوله تعالى: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ تَمْكِينِهِمْ وَإِقْدَارِهِمْ.
وَمِنْهَا: الْمُبَالَغَةُ بِتَرْكِ التَّقْيِيدِ، نَحْوَ: {هُوَ يحيي ويميت} وقوله: {فهم لا يبصرون} وَنَفْيُ الْفِعْلِ غَيْرَ مُتَعَلَّقٍ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِهِ مُتَعَلَّقًا بِهِ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي الْأَوَّلِ نَفْسُ الْفِعْلِ وَفِي الثَّانِي مُتَعَلَّقُهُ.